في وقت كانت فيه واحدة من أبرز مؤشرات الثقة والمصداقية على مواقع التواصل الاجتماعي، يلجأ إليها المستخدمون من أجل التثبت من صحة تصريح أو معلومة أو بيان صادر عن شخصية أو جهة رسمية، تحولت العلامة الزرقاء، لاسيما على منصة “أكس” (تويتر سابقاً)، إلى ركن أساسي تعتمد عليها حملات التضليل وبث الأخبار الزائفة، وذلك بعد التغيير الذي طرأ على سياسات المنصة في منحها لعلامة التوثيق الزرقاء للحسابات في نوفمبر 2022.
وبينما كانت منصة تويتر سابقاً تقوم بالتثبت من الهوية الرسمية للمستخدمين وتضع شروطاً صارمة وواضحة في منحها لعلامة توثيق الحساب، تتطلب إبراز هوية رسمية صادرة عن حكومة وإثبات عمل وشهرة وأصالة للحساب مع نشاط محدد عليه وعدد معين من المتابعين، بات المطلوب اليوم مجرد رسم اشتراك بقيمة 8 دولارات بالحد الأدنى، بحسب التغييرات التي أجراها الملياردير الأميركي، إيلون ماسك، بعد شرائه لشركة تويتر.
الإجراء الذي يهدف إلى زيادة إيرادات الشركة، وفق ما أعلنت، بعدما كانت تسجل خسائر يومية بملايين الدولارات، مما هددها بالإفلاس، أدى في المقابل إلى تحويل المنصة إلى ساحة نشطة لانتشار المعلومات المضللة، بعدما منح المنخرطون في التزييف الإعلامي والمروجين لنظريات المؤامرة والعلم الزائف انتشاراً أوسع مما كان عليه، لاسيما أن الاشتراك بخدمة Twitter Blue بات يمنح لأصحابه وصولاً أكبر وأفضلية ظهور في الخوارزميات الخاصة بالمنصة.
التأثير الأكبر لسياسات “أكس” الجديدة، ظهر بصورة أوضح خلال الأزمات المتلاحقة التي شهدها العالم على مدى الأشهر الماضية، وأحدثها خلال الحرب الجارية في غزة، عقب هجوم حماس غير المسبوق في السابع من أكتوبر الماضي، وأبرزها شهدته الحرب في السودان، وبينهما شكلت الكوارث العالمية، مثل فيضان ليبيا وزلزال تركيا والمغرب، أرضاً خصبة لبث المعلومات والأخبار الزائفة، وكان للعلامة الزرقاء دوراً بارزاً في عملية التضليل.
ويؤكد ذلك مسؤول خدمة تقصّي صحة الأخبار باللغة العربية في وكالة فرانس برس، خالد صبيح، في حديثه لموقع “الحرة”، إذ إن السياسات الجديدة المتعلقة بمنح العلامة الزرقاء، “زادت نظرياً من انتشار التضليل والأخبار المزيفة”، خاصة بعدما زاد الوعي بالأخبار الزائفة ومفهوم تدقيق المعلومات خلال السنوات الماضية.
كان الناس يبحثون عن العلامة الزرقاء، بحسب صبيح، كردة فعل أولية في تدقيقهم بالمعلومة التي يتلقونها على مواقع التواصل الاجتماعي، ويعتمدون عليها كسبيل للتأكد من أن الحساب رسمي.
لكن بعدما أتيحت هذه العلامة مقابل بدل مادي، أحدث الأمر “ارتباكا كبيراً”، وفق صبيح، “ضاع الناس بسبب ذلك، ورأينا صحفيين ضاعوا أيضا”، إذ اعتمدوا على العلامة الزرقاء في نقلهم لتصريحات وبيانات، تبين لاحقاً أنها مزيفة ومضللة.
من جهته، يلفت مدير المحتوى الرقمي في منظمة “سمكس”، التي تعنى بالحقوق الرقمية والأمان الرقمي، عبد الغني قطايا، إلى أن حالة من التضارب نجمت عن هذا الواقع المستجد على منصة “أكس”، لاسيما أن النصيحة التي كانت توجه للناس في الماضي، هي التوجه إلى الصفحات الرسمية الموثقة للتأكد من التصريحات والمعلومات الصادرة عن جهات معروفة وشركات وشخصيات رسمية.
ويضيف في حديثه لموقع “الحرة” أن هذه النصيحة لم تعد تصلح الآن، فرغم أن كثيرا من أصحاب الحسابات الموثقة عادوا واشتركوا بالعلامة الزرقاء، إلا أن نسبة كبيرة أيضاً في المقابل لم تفعل ذلك، فيما تنتشر الحسابات المقلدة والحاصلة في الوقت نفسه على تلك العلامة.
نتيجة لذلك، بات هناك كثير من الحسابات المزيفة التي تنتحل صفات أشخاص آخرين، وأحياناً بوضوح تام إلى حد الإعلان عن أنها صفحات ساخرة (بارودي).
كذلك بات هناك صفحات إخبارية تقدم نفسها باعتبارها متخصصة في مناطق معينة أو حدث محدد، حاصلة على علامة زرقاء، تنشر الأخبار والمتابعات اليومية الخاصة، وتمرر بينها، بحسب قطايا، الأخبار الزائفة والتضليل المطلوب تمريره، “وقد رأينا هذا الأمر في حرب غزة مؤخراً، حيث لعبت هذه الحسابات غير المعروفة والموثقة بالعلامات الزرقاء، دوراً بارزاً في نشر التضليل والأخبار الزائفة، بأسلوب دس السم في العسل”، عبر تمرير الأخبار المزيفة وسط حجم كبير من الأخبار الصحيحة.
و شهد الموقع الأزرق فوضى عارمة في الحسابات، وانتشارا كبيرا للحسابات المزيفة التي حملت أسماء شخصيات وجهات حكومية ومؤسسات اجتماعية، الأمر الذي كاد أن ينعكس على الحياة الواقعية للناس حول العالم.
في مثال على ذلك، وبعد اختفاء العلامات الزرقاء، زعم حساب على تويتر أنه “حساب تويتر المحقق” الذي يمثل الحكومة المحلية لمدينة نيويورك، وكان يمكن لسوء استغلال هذا الحساب أن يؤدي إلى تداعيات على سكان المدينة وأضرار غير محسوبة، الأمر الذي دفع الحساب الرسمي للحكومة المحلية إلى إصدار بيان توضيحي، فيما اضطرت شركة تويتر في حينها إلى إيقاف الحساب.
الأمر كان أكثر خطورة في ولاية شيكاغو، إذ ادعت حسابات مزيفة، أنها تعود لعمدة المدينة، ووزارة النقل بها، وفي خطوة منظمة بالتزامن، ظهر حساب ادعى أنه يعود لوزارة النقل في إلينوي، حيث تم نشر معلومات مضللة في 21 أبريل، تفيد عن إغلاق طريق Lake Shore Drive أمام حركة المرور، بدءًا من شهر مايو.
تكرر الأمر في اليوم نفسه مع وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، إذ ادعى حساب مزيف باسمها بعد إزالة الإشارة الزرقاء عن حسابها، أنه الحساب الرسمي، معلنا ترشحها للرئاسة الأميركية في الانتخابات المقبلة.
من النماذج ذات التأثير الخطر أيضاً، كان توثيق حساب مزيف يدعي أنه حساب شركة الأدوية إيلي ليلي Eli Lilly الأميركية، وأعلن الحساب المزيف عن توفير أدوية الإنسولين لمرضى السكر مجانا، وهو ما أثار ضجة عالمية ونال انتشاراً كبيراً، مما اضطر الشركة إلى توضيح زيف الادعاء، وعرضها لموجة انتقادات واسعة وخسائر مالية، بعد الآمال التي كان قد عقدها العديد من المرضى على تلك الخطوة المفترضة.
وعلى مدى 8 أشهر تعدد استغلال سهولة الحصول على العلامة الزرقاء وانعدام معايير منحها، وطالت الأخبار المزيفة العديد من المجالات والأحداث العالمية والحروب، على رأسها الحرب الروسية على أوكرانيا.
بالنسبة إلى وكالة الصحافة الفرنسية، يقول صبيح: “لمسنا التجلي الأوضح لهذه المشكلة بالحرب السودانية، إذ انتحلت العديد من الصفحات على موقع تويتر صفات رسمية، مثل الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع أو شخصيات قيادية في هذه المجموعات، ولديها علامات زرقاء، مما أوقع الناس والصحفيين في ارتباك كبير وأثار بلبلة.
وكان حساب موثق بالعلامة الزرقاء باسم قوات الدعم السريع، التي تخوض حرباً ضد الجيش السوداني في صراع على السلطة، قد نشر تغريدة أشارت إلى مقتل حميدتي، قائد هذه القوات.
ولاقت التغريدة انتشاراً عالمياً واسعاً، ونقلت وسائل إعلامية الخبر منسوباً إلى “الصفحة الرسمية لقوات الدعم السريع”، وذلك بناء على حيازتها للعلامة الزرقاء، وهو ما تبين زيفه لاحقاً، وتبين للمفارقة أيضاً أن الحساب الرسمي لقوات الدعم السريع السودانية، لم يكن حاصلاً حينها على علامة التوثيق.